فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان هذا القرآن متكفلًا بسعادة الدارين قال تعالى: {وتجعلون رزقكم} أي: حظكم ونصيبكم وجميع ما تنتفعون به من هذا الكتاب وهو نفعكم كله {أنكم تكذبون} فتضعون الكذب مكان الشكر كقوله تعالى: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} [الأنفال:].
أي: لم يكونوا يصلون ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصلاة، قال القرطبي: وفيه بيان أنّ ما أصاب العباد من خير فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسبابًا بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة أو صبر إن كان مكروهًا تعبدًا له وتذللًا، وعن ابن عباس: أنّ المراد به الاستسقاء بالأنواء، وهو قول العرب مطرنا بنوء كذا؛ ورواه علي بن أبي طالب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: «مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر فقال بعضهم: هذه رحمة الله تعالى وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا قال: فنزلت هذه الآية {فلا أقسم بمواقع النجوم} حتى بلغ {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}».
وفيه أيضًا «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج في سفر فعطشوا فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أرأيتم إن دعوت الله تعالى لكم فسقيتم لعلكم أن تقولوا هذا المطر بنوء كذا فقالوا: يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء فصلى ركعتين ودعا الله تعالى، فهاجت ريح ثم هاجت سحابة فمطروا، فمر النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه عصابة من أصحابه برجل يغترف بقدح له وهو يقول سقينا بنوء كذا ولم يقل هذا من رزق الله تعالى فنزلت {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}». أي: شكرًا الله على رزقه إياكم أنكم تكذبون بالنعمة، وتقولون: سقينا بنوء كذا كقول القائل: جعلت إحساني إليك إساءة منك إليّ وجعلت إنعامي لديك أن اتخذتني عدوًّا، قال الشافعي: لا أحب لأحد أن يقول مطرنا بنوء كذا وإن كان النوء عندنا الوقت لا يضرّ ولا ينفع ولا يمطر ولا يحبس شيئًا من المطر، والذي أحب أن يقول: مطرنا وقت كذا كما يقول مطرنا شهر كذا، ومن قال مطرنا بنوء كذا وهو يريد أن النوء أنزل الماء كما يقول أهل الشرك فهو كافر حلال دمه إن لم يتب. وحاصله إن اعتقد أنّ النوء هو الفاعل حقيقة فهو كافر وإلا فيكره له ذلك كراهة تنزيه، وسبب الكراهة: أنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره فيساء الظنّ بقائلها ولأنها من شعار الجاهلية ومن سلك مسلكهم ثم بين سبحانه أنه لا فاعل لشيء في الحقيقة سواه بقوله تعالى: {فلولا} وهي: أداة تفهم طلبًا بزجر وتوبيخ وتقريع بمعنى فهلا ولم لا {إذا بلغت الحلقوم} أي: بلغت الروح منكم ومن غيركم عند الاحتضار الحلقوم، أضمرت من غير ذكر لدلالة الكلام عليها دلالة ظاهرة، وفي الحديث: «أن ملك الموت له أعوان يقطعون العروق ويجمعون الروح شيئًا فشيئًا حتى تنتهي إلى الحلقوم فيتوفاها ملك الموت». والحلقوم مجرى الطعام في الحلق والحلق مساغ الطعام والشراب معروف فكان الحلقوم أدنى الحلق إلى جهة اللسان {وأنتم} أي: والحال أنكم أيها العاكفون حول المحتضر المتوجعون له {حينئذ} أي: بلغت الروح ذلك الموضع {تنظرون} أي: إلى أمري وسلطاني، أو إلى الميت ولا حيلة لكم ولا فعل بغير النظر ولم يقل: تبصرون لئلا يظنّ أنّ لهم إدراكًا بالبصر لشيء من البواطن من حقيقة الروح ونحوها {ونحن} أي: والحال أنا نحن بما لنا من العظمة {أقرب إليه} أي: المحتضر بعلمنا وقدرتنا {منكم} على شدّة قربكم منه، قال عامر بن قيس: ما نظرت إلى شيء إلا رأيت الله أقرب إليّ منه {ولكن لا تبصرون} من البصيرة أي: لا تعلمون ذلك {فلولا} أي: فهلا {إن كنتم} أيها المكذبون بالعبث {غير مدينين} أي: مربوبين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم، أو مقهورين مملوكين مجزيين محاسبين بما عملتم في دار البلاء التي أقامكم فيها أحكم الحاكمين، من دانه إذا ذله واستعبده، وأصل تركيب دان للذل والإنقياد قاله البيضاوي {ترجعونها} أي: الروح إلى ما كانت عليه {إن كنتم} كونًا ثابتًا {صادقين} فيما زعمتم فلولا الثانية تأكيد للأولى، وإذ ظرف لترجعون المتعلق به الشرطان؛ والمعنى: أنكم في جحودكم أفعال الله تعالى وآياته في كل شيء أن أنزل عليكم كتابًا معجزًا قلتم سحر وافتراء، وإن أرسل إليكم رسولًا صادقًا قلتم ساحر كذاب، وإن رزقكم مطرًا يحييكم به قلتم صدق نوء كذا على مذهب يؤدي إلى الإهمال والتعطيل،
فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثم قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدئ المعيد.
ثم ذكر تعالى طبقات الخلق عند الموت وبين درجاتهم فقال عز من قائل: {فأما إن كان} المتوفى {من المقرّبين} السابقين الذين اجتذبهم الحق من أنفسهم فقرّبهم منه فكانوا مرادين قبل أن يكونوا مريدين، وليس القرب قرب مكان لأنه تعالى منزه عنه وإنما هو بالتخلق بالصفات الشريفة على قدر الطاقة البشرية ليصير الإنسان روحًا خالصًا كالملائكة لا سبيل إلى الحظوظ والشهوات عليها وقوله تعالى: {فروح} مبتدأ خبره مقدّر قبله أي: فله روح، أي: راحة ورحمة وما ينعشه من نسيم الريح. وقال سعيد بن جبير: فله فرج، وقال الضحاك: مغفرة ورحمة {وريحان} أي: رزق عظيم ونبات حسن بهيج وأزاهير طيبة الرائحة، وقال مقاتل: هو بلسان حمير رزق، يقال: خرجت أطلب ريحان الله أي: رزقه؛ وقيل: هو الريحان الذي يشم؛ قال أبو العالية: لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه ثم تقبض روحه؛ وقال أبو بكر الوراق: الروح النجاة من النار والريحان دخول دار القرار {وجنت} أي: بستان جامع الفواكه والرياحين {نعيم} أي: ذات تنعم ليس فيها غيره وأهله مقصورة عليهم.
تنبيه:
جنت هنا مجرورة التاء ووقف عليها بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، فالكسائي بالأمالة في الوقف على أصله، والباقون بالتاء على المرسوم.
{وأما إن كان} المتوفى {من أصحاب اليمين} أي: الذين هم في الدرجة الثانية من أصحاب الميمنة {فسلام لك} أي: يا صاحب اليمين {من} إخوانك {أصحاب اليمين} أي: يسلمون عليك كقوله تعالى: {إلا قيلًا سلامًا سلاما} وقال القرطبي: فسلام لك من أصحاب اليمين أي: لست ترى منهم إلا ما تحبّ من السلامة فلا تهتم لهم فإنهم يسلمون من عذاب الله تعالى؛ وقيل المعنى: سلام لك منهم، أي: أنت سالم من الاعتمام لهم والمعنى واحد؛ وقيل: أصحاب اليمين يدعون لك يا محمد بأن يصلي الله عليك ويسلم؛ وقيل معناه: سلمت أيها العبد مما تكره فإنك من أصحاب اليمين فحذف إنك؛ وقيل: إنه يحيى بالسلام تكرّمًا؛ وعلى هذا في محل السلام ثلاثة أقوال: أحدها: عند قبض روحه في الدنيا يسلم عليه ملك الموت قاله الضحاك، وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام، الثاني: عند مسألته في القبر يسلم عليه منكر ونكير، الثالث: عند بعثه في القيامة تسلم عليه الملائكة قبل وصوله إليها؛ قال القرطبي: ويحتمل أن يسلم عليه في المواطن الثلاثة ويكون ذلك إكرامًا بعد إكرام.
ولما ذكر تعالى الصنفين الناجيين أتبعهما الهالكين جامعًا لهم في صنف واحد لأنّ من أريدت له السعادة يكفيه ذلك ومن ختم له بالشقاوة والعياذ بالله تعالى لا ينفعه الإغلاظ والإكثار فقال تعالى: {وأما إن كان} المتوفى {من المكذبين} الذين أخذناه من أصحاب المشأمة وأنتم حوله تتقطع أكبادكم له ولا تقدرون له على شيء أصلًا {الضالين} أي: عن الهدى وطريق الحق {فنزل من حميم} كما قال تعالى: {ثم إنكم أيها الضالون المكذبون} إلى أن قال: {فشاربون شرب الهيم} وقال تعالى: {ثم إنّ لهم عليها لشوبًا من حميم} [الصافات:].
أي: ماء متناه في الحرارة بعد ما نالوا من العطش كما يرد أصحاب الميمنة الحوض كما يبادر به للقادم ليبرد به غلة عطشه ويغسل به وجهه ويديه {وتصلية جحيم} أي: ونزل من تصلية جحيم، والمعنى: إدخال في النار؛ وقيل: إقامة في الجحيم ومقاساة لأنواع عذابها، يقال: أصلاه النار وصلاه أي: جعله يصلاها والمصدر هنا مضاف إلى المفعول كما يقال: لفلان إعطاء ما له أي: يعطي المال {إن هذا} أي: الذي ذكر في هذه السورة من أمر البعث الذي كذبوا به في قولهم: إننا لمبعوثون ومن قيام الأدلة عليه {لهو حق اليقين} أي: حق الخبر اليقين أي: لما عليه من الأدلة القطعية المشاهدة كأنه مشاهد مباشر، وقيل: إنما جاز إضافة الحق إلى اليقين وهما واحد لاختلاف لفظهما وذلك من باب إضافة المترادفين ولما حقق له تعالى إلى هذا اليقين سبب عن أمره لنبيه صلى الله عليه وسلم بالتنزيه عما وصفوه به مما يلزم منه وصفه بالعجز فقال تعالى: {فسبح} أي: أوقع التنزيه كله عن كل شائبة نقص بالاعتقاد والقول والفعل بالصلاة وغيرها بأن تصفه بكل ما وصف به نفسه من الأسماء الحسنى وتنزهه عن كل ما نزه نفسه عنه {باسم ربك} أي: المحسن إليك بما خصك به مما لم يعطه أحدًا غيرك وإذا كان هذا لاسمه فكيف بما هو له {العظيم} الذي ملأت عظمته جميع الأقطار والأكوان وزادت على ذلك بما لا يعلمه حق العلم سواه، لأنّ من له هذا الخلق على هذا الوجه المحكم وهذا الكلام الأعز الأكرم لا ينبغي لشائبة نقص أن تلم بجنابه أو تدنو من فناء بابه، وعن عقبة بن عامر قال: «لما نزلت {فسبح باسم ربك العظيم} قال النبيّ صلى الله عليه وسلم اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت {سبح اسم ربك الأعلى} قال النبي صلى الله عليه وسلم اجعلوها في سجودكم». خرجه أبو داود وعن أبي ذر قال: «قال لي عليه الصلاة والسلام: ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله تعالى سبحان الله وبحمده». وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» هذا الحديث آخر حديث في البخاري وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال: «سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة». روى أبو طيبة عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدًا» ورواه البيهقي وغيره وكان أبو طيبة لا يدعها أبدًا وأخرجه ابن الأثير في كتابه جامع الأصول ولم يعزه. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ}.
ذهب جمهور المفسرين إلى أن (لا) مزيدة للتوكيد، والمعنى: فأقسم، ويؤيد هذا قوله بعد: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ} وقال جماعة من المفسرين: إنها للنفي، وإن المنفيّ بها محذوف، وهو كلام الكفار الجاحدين.
قال الفراء: هي نفي، والمعنى: ليس الأمر كما تقولون.
ثم استأنف، فقال: أقسم، وضعف هذا بأن حذف اسم لا وخبرها غير جائز، كما قال أبو حيان، وغيره.
وقيل: إنها لام الابتداء، والأصل: فلا أقسم، فأشبعت الفتحة، فتولد منها ألف، كقول الشاعر:
أعوذ بالله من العقراب

وقد قرأ هكذا: {فلأقسم} بدون ألف الحسن، وحميد، وعيسى بن عمر، وعلى هذا القول، وهذه القراءة يقدّر مبتدأ محذوف، والتقدير: فلأنا أقسم بذلك.
وقيل: إن لا هنا بمعنى ألا التي للتنبيه، وهو بعيد.
وقيل: لا هنا على ظاهرها، وإنها لنفي القسم، أي: فلا أقسم على هذا؛ لأن الأمر أوضح من ذلك، وهذا مدفوع بقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} مع تعيين المقسم به، والمقسم عليه، ومعنى قوله: {بمواقع النجوم} مساقطها، وهي مغاربها كذا قال قتادة، وغيره.
وقال عطاء بن أبي رباح: منازلها.
وقال الحسن: انكدارها وانتثارها يوم القيامة، وقال الضحاك: هي الأنواء التي كان أهل الجاهلية يقولون مطرنا بنوء كذا.
وقيل: المراد بمواقع النجوم: نزول القرآن نجومًا من اللوح المحفوظ، وبه قال السديّ، وغيره، وحكى الفراء عن ابن مسعود أن مواقع النجوم هو محكم القرآن.
قرأ الجمهور: {مواقع} على الجمع، وقرأ ابن مسعود، والنخعي، وحمزة، والكسائي، وابن محيصن وورش عن يعقوب {بموقع} على الإفراد.